استهلال

حب الجمالِ، فطرتنا

تأمل، صنع خالقنا

الطبيعة ملكتكَ لكنها ليست لَكَ

أنت وهي،

من بديع خالقك،

اسألك؟

ماذا عن اللحظاتِ، لماذا تتركنا؟

اللحظات آنية،

والنفسُ فانية

والمكانُ باق

‍

[نامان، سان مارتينو]

‍

أخذ منا الطريق ما يقارب ١٠ ساعات بالمركبة للوصول إلى سان مارتينو من مدينة روما. وعند نزولنا كان الهواء مختلفًا جدًا، له ثقل خاص لا مثيل له. ربما يرجع ذلك إلى مكان القرية العالي والخلاء الممتد على مَدّ النظر، أو بسبب الأشجار والغابات الكثيفة المحيطة بالمكان.

استقبلتنا القطه «ميني ميني» وهي متمدده على السجاد تحاول التقاط الورود المنقوشة على السجاد بإدخال مخالبها. حينها قالت صاحبة المأوى أن ميني ميني تحب استقبال الغرباء بهذه الطريقة، ثم طردتها من المنزل وتركتنا لوحدنا ليبدأ المعسكر.

‍

مسير الصباح

بعد الاستيقاظ نبدأ يومنا بمسير «ساعة» حول المنطقة. خلال هذا الوقت يتحرك الجسم ويستعد لنشاط اليوم، نستقبل الشمس والضوء لضبط الساعة البيولوجية (إحدى الفوائد التي استلهمناها من الدكتور ريان العبد الواحد المهتم بالصحة الجسدية الشمولية). لكن نحن هنا بين الطبيعة نستطيع فعلًا استشعار الفوائد الجسدية وعلاقتها بالطبيعة بشكل واضح، دون التفكير العميق في لماذاتها وأسبابها.

«تزداد الخطوات وتزيد معها لحظات التأمل في خلق الله المحيطة من جبال، وأشجار، وأنهار وغابات»

في مسير الصباح لم تكن هناك أهمية لاختيار وجهة ونقطة معينة للذهاب إليها، إذ كنا مدفوعين بفضولنا لأن نستكشف الجهة الأخرى من الطريق دون تحديد البوصلة.

‍

الغذاء

(الكسكسية، شوربة الدجاج، الدجاج المحمر وبيض الفطر)

إحدى النواميس التي عملنا عليها اختيار نوعية الغذاء، بحيث يجب أن يكون طيبًا للبدن، وأن لا يكون من الغذاء المُصنّع أو البهانس «الخفائف» رخيصة الفوائد. كان تحضير الغذاء وطبخه الوسيلة التي اعتمدناها في غذاء المعسكر. قسمنا بيننا الأدوار والمهام  لكي نضمن وصول التجربة للجميع، وكانت تدور بين الطبخ وتنظيف الأوعية وتكنيس الفتات الساقط سهوًا على الأرض.

الطبيعة

ما يميز قرية سان مارتينو كان الهدوء التام خلال اليوم؛ لبعدها عن المركز الرئيس للمنطقة. تتوزع فيها الأكواخ على مناطق مختلفة في الجبل، تراها وكأنها حصون قابعة فوق تلال ساكنة في كل اتجاه تنظر إليه.

‍

هناك عوامل كثيره في سبب اختيار الجبل ليكون مركز المعسكر، أهمها «تصميم الصعوبة» وينطبق ذلك على الجبال الوعرة، التي تخلق جهدًا للوصول والنزول، والحركة في أرجاء المكان، مما يجعلها عاملًا جيدًا لتهيئة بيئة يكثر فيها النشاط الجسدي.

الحركة

في القِدم كنا نتحرك من أجل إنجاز المهام، وكنا مضطرين نحن بني الإنسان لفعل ذلك، لكن الآن؟
لماذا أصبحنا نُلزم أنفسنا على بذل جهد بأسلوب نختاره خلال زمن معين؟ لماذا أصبحنا نلزم أنفسنا أن نمارس الرياضة؟ عندما أفكر في هذا السؤال أجد أن الجواب ينقسم إلى هدفين رئيسين، وهما الصحة الجسدية والنفسية. أما الجسدية فهي معرفتنا أن عدم حركة الجسد هي طريق للآفات والمرض مثل التُّخَمَة وأمراض القلب. وأما النفسية، فهي عَلاقة الجهد البدني في تعزيز الصحة النفسية. ولهذه الأسباب أصبحنا نفتعل الحركة. في سان مارتينو صممنا الحركة على أن تكون بين مسير الصباح، أو الجري في المساء، أو تسلق الجبال. وهذا التنوع يحقق أهداف مختلفة بين الصحة الجسدية والنفسية.

تسلق الجبال

قررنا في اليومين الرابع والسادس أن يكون هناك تنويع في الحركة، وبحثنا عن ذلك بشكل عفوي من خلال تصفح الكتيب الموجود للزوار على طاولة الطعام. كان هناك العديد من المسارات المحيطة بالمكان واخترنا منها مسارين واحد بطول ٤ ساعات ونصف، والاخر ٦ ساعات.

- المسار الأول‍

جران فانِس باستوريس
[ ٤ ساعات ونصف، ٧ كيلو متر، ١٠،٢٧٢ خطوة ]

‍

يبدأ الطريق بعد عبور الجسر الخشبي، ترى عنده الكثير من الناس يستعدون ومنهم من لديه الخيمة في ظهره متجهزًا لقضاء يوم في جبال البحيرة. استمرينا بالمسير ونحن ننظر يمنة ويسره للجبال والغابة، حتى وصلنا لمنتصف المسار، حينها بدأت الارتفاعات بالتصاعد، ما زاد من صعوبة المسير أكثر فأكثر، ومن شدة الإرهاق بدأنا نتسائل، هل نقف هنا ونعود أدراجنا أم نتحدى النفس ونكمل الطريق؟ كيف نحدد أصلًا ما إذا كانت النفس الآن تتكاسل وتخاف؟ وبين أن التحدي مهم ويجب المضي قدمًا؟ وبينما كانت هذه الأسئلة تدور في الرأس بلا نهاية، وصلنا لنهاية الطريق.

‍

رجعنا تعبين مرهقين من طول الطريق الذي انهك الأبدان، وأثقل الأذهان. الصيانة ثم إطعام الجسد وبعدها النوم.

- المسار الثاني
أدولف مِنكل
[ ٦ ساعات، ١٠ كيلو متر، ١٤،٦٧٨ خطوة]

‍

بدأنا المسير مع نزول المطر، لم يكن هناك الكثير من البشر بسبب أحوال الطقس الممطرة. وهذا كان عاملًا جيدًا كي نختلي بالمكان لأنفسنا. توقف المطر في اللحظة التي لاقت بها أعيننا الجبل الشاهق خلف أغصان الشجر الكثيف.

‍

استمرينا بالمسير والابتسامة تعلو المحيا، الكل يأشر نحو كل اتجاه، أنظر أنظر أنظر، ليشاركنا اللحظات العابرة من سعادة النفس بالمناظر. الشمس وهي تشق طريقها بين السحب، النور في ندى المطر على نبات الأرض أو الحجارة المكسوة بالنباتات العالقة، كلها تعطي لوحة خالدة في الأذهان، جعلتنا ننظر لكل واحد منا نتشارك قيمة الامتنان لهذه اللحظة.

‍

أنتهى المسار عند مشهد الكوخ ومن خلفه الجبل.

‍

مزرعة الحيوان

في واجهة المأوى تجد الحظيرة الخاصة بالحيوانات وقطيع الماعز والدجاج والحمارة. تسمع صياح الديك في الصباح وترى شقاء الماعز في النهار يحاولون النزال فيما بينهم لإثبات قوة قرونهم. وفي الزاوية ترى الحمارة واقفة، لوهلة تظن أنها في لحظة سكون تتأمل في ذلك الجبل البعيد خلف الوادي.

‍

في اليوم الأخير كانت المصادفة أن ولدت الحمارة عجلها الصغير عند وقت الغروب، تاركة لنا التأمل الأخير في ميلاد بين الحياة الساكنة والحياة المتحركة. فنُعّرف «الحياة المتحركة» بالتكرار اليومي لقضاء الوقت بين العمل والمهام، وقضاء الحاجات في حياتنا الشخصية. و«الحياة الساكنة»، تلك المعيشة البعيدة التي تظل على فطرتها ترعى وتسقى وتعيش كل يوم بيومه، فبينما الحياة المتحركة تتغير سريعًا بمضي الوقت، نجد الساكنة في ثبات تام كأنها خالدة وأبدية مهما عدت إليها.

‍

الختام

نحمل العدة والعتاد على المركبة، محملين بمربى التوت والجبن المخمر هدايا المكان المعزول وأهل الريف. راجعون ومعنا تعاليم العزلة التي مارسنا فيها الروتين المثالي لتهذيب النفس والجسد آملين بالفائدة لنطبقها في أراضي السهول عند روتين الحياة المتحرك.